نماذج من الوقف في زمن التابعين ومن بعدهم

نماذج من الوقف في زمن التابعين وأتباعهم ومن بعدهم في شتى المجالات


وهي آخر مرحلة وقفية من زمن القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية، كما خرج ابن حبان وغيره عن عبد الله بن مؤلة قال كنت أسير مع بريدة الأسلمي فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، قال ابن حبان في الثقات (8/1): "هذه اللفظة ثم الذين يلونهم في الرابعة تفرد بها حماد بن سلمة وهو ثقة مأمون وزيادة الألفاظ عندنا مقبولة عن الثقات"، ولها شواهد أخرى. وقد كثر الخير في زمانهم، وكثر معه الوقف وتنوع، بسبب كثرة الفتوحات الإسلامية وما أغدقت عليه من خير على المسلمين، حيث توفّرت لديهم الحوائط والمزارع والحدائق والدور والقطائع وسائر أنواع الأموال والعقار، حتى صارت للأحباس هيئات خاصة ترعاها، وتسابق السلف فيه قولا وفعلا. 


ومن أبرز سمات هذه المرحلة: ما يلي:

استمرارية بقاء أوقاف النبي صلى الله عليه وسلم، وأوقاف أصحابه إلى أزمنة عديدة: وبذلك استمر الربط والترابط بين السلف والخلف جيلاً بعد جيل.

فقد نقلنا عن الشافعي قوله:"الوقف عندنا بالمدينة ومكة من الأمور المشهورة العامة التي لا يحتاج فيها إلى نقل خبر الخاصة، وصدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي قائمة عندنا، وصدقة الزبير قريب منها، وصدقة عمر بن الخطاب قائمة، وصدقة عثمان، وصدقة علي، وصدقة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقة من لا أحصي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأعراضها، وصدقة الأرقم بن أبي الأرقم، والمسور بن مخرمة بمكة، وصدقة جبير بن مطعم، وصدقة عمرو بن العاص بالرهط من ناحية الطائف، وما لا أحصي من الصدقات المحرمات لا تبعن ولا توهبن بمكة والمدينة وأعراضها... قال: ولقد بلغني أن أكثر من ثمانين رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار تصدقوا صدقات محرمات موقوفات".

وقال ابن حجر في الدراية (28145):"وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي الخلافيات من طَرِيق الْحميدِي قَال: " تصدق أَبُو بكر بداره بِمَكَّة عَلَى وَلَده فَهِيَ إِلَى الْيَوْم وَتصدق عمر بربعه عِنْد الْمَرْوَة وبالثنية عَلَى وَلَده إِلَى الْيَوْم وَتصدق عَلّي بأرضه وداره بِمصْر وبأمواله بِالْمَدِينَةِ عَلَى وَلَده فَذَلِك إِلَى الْيَوْم وَتصدق سعد بن أبي وَقاص بداره بِالْمَدِينَةِ وَبِدَارِهِ بِمصْر عَلَى وَلَده إِلَى الْيَوْم، وَتصدق عَمْرو بن الْعَاصِ بالوهط من الطَّائِف وَبِدَارِهِ بِمَكَّة وبالمدينة عَلَى وَلَده فَذَلِك إِلَى الْيَوْم، قَال: وَمن لَا يحضرني كثير".

وبنحوه قال الإمام ابن حزم في المحلى (9/180):"وحبس عثمان بئر رومة على المسلمين بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل ذلك الخلف عن السلف، جيلاً بعد جيل، وهي مشهورة بالمدينة، وكذلك صدقاته عليه السلام بالمدينة مشهورة كذلك، وقد تصدق عمر في خلافته بثمغ، وهي على نحو ميل من المدينة وتصدق بماله، وكان يغل مائة وسق بوادي القرى كل ذلك حبسا، وقفا، لا يباع ولا يشترى، أسنده إلى حفصة، ثم إلى ذوي الرأي من أهله. وحبس عثمان، وطلحة، والزبير، وعلي بن أبي طالب، وعمرو بن العاص: دورهم على بنيهم، وضياعا موقوفة، وكذلك ابن عمر وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة جملة صدقاتهم بالمدينة أشهر من الشمس، لا يجهلها أحد. وأوقف عبد الله بن عمرو بن العاص " الوهط " على بنيه، ثم قال: "اختصرنا الأسانيد لاشتهار الأمر".

وهذه أوقاف حوائط مخيريق بقيت قائمة مُنتجةً إلى زمن التابعين ومن بعدهم، بل إلى أزمنة عديدة:فقال ابن شبة في تاريخ المدينة (1/173):"باب ما جاء في أموال النبي صلى الله عليه وسلم وصدقاته ونفقاته بالمدينة وأعراضها، ثم خرج من مرسل الزهري قال:" وأسماء أموال مخيريق التي صارت للنبي صلى الله عليه وسلم: الدلال، وبرقة، والأعواف، والصافية، والميثب وحسنى، ومشربة أم إبراهيم. فأما الصافية والبرقة والدلال والميثب، فمجاورات بأعلى السورين من خلف قصر مروان بن الحكم.. وأما مشربة أم إبراهيم فيسقيها مهزور، فإذا خلفت بيت مدراس اليهود، فحيث مال أبي عبيدة.. الأسدي، فمشربة أم إبراهيم إلى جنبه، وإنما سميت مشربة أم إبراهيم لأن أم إبراهيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدته فيها، وتعلقت حين ضربها المخاض بخشبة من خشب تلك المشربة، فتلك الخشبة اليوم معروفة في المشربة. وأما حسنى فيسقيها مهزور، وهي من ناحية القف. وأما الأعواف فيسقيها أيضا مهزور، وهي في أموال بني محمم". بل استمر بقاؤها والعلم بالكثير منها إلى القرن التاسع كما قال الصالحي في سبيل الهدى والرشاد (8/406): "الباب العاشر في أوقافه - عليه السلام - وهي الصافية معروفة اليوم شرقي المدينة بجرع زهيرة تصغير زهرة.. قال السيد: ويظهر لي أنه الموضع المعروف بالحسنيات قرب جزع الدلال، إذ هو بجهة القف أو يثرب لمهزور... مشربة أم إبراهيم، لأن أمه مارية ولدته فيها وهي معروفة بالعالية"، وكذلك ذكرها السمهودي في الوفا.

وهذه أيضا صدقة عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم استفاد منها من بعدهم:كما خرج الخصاف (16) عن عمر بن عبد العزيز قال: "فلقد رأيت عبد الله بن عبيد الله يلي صدقة عمر وأنا بالمدينة وال عليها فيرسل إلينا من ثمرته"، وذكرنا في السابق قول ابن شبة وغيره من أن صدقات الصحابة رضي الله عنهم لا زالت موجودة إلى ذلك الزمان، وهي مشهورة وكثيرة جدا. وعن عمر بن عبد العزيز قال: سمعت بالمدينة والناس يومئذ بها كثير من مشيخة المهاجرين والأنصار أن حوائط النبي صلى الله عليه وسلم، يعني السبعة التي وقف من أموال مخيريق، وقال: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله، وقتل يوم أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود. ثم دعا لنا عمر بتمر منها، فأتي بتمر في طبق فقال: كتب إلي أبو بكر بن حزم يخبرني أن هذا التمر من العذق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم". كما امتازت هذه المرحلة بمحاولة تتبع الأوقاف وتوثيقها وتصويب شروطها، وجعل كاتب عام لها: لما خرجه الخصاف (16) عن الواقدي ني يحيى بن خالد بن دينار قال: سمعت أبا بكر بن عمرو بن حزم يقول: "كتب إلي عمر بن عبد العزيز أن افحص عن الصدقات.."، قال أبو بكر بن حزم: "فلقد مات عمر حين مات وإنه ليريد أن يرد صدقات الناس التي أخرج منها النساء". ومن ذلك استمرار اتخاذ الشهود وولي يلي أمر الأوقاف: برهان ذلك ما خرجه الخصاف (17) عن محمد بن عبد الله عن الزهري أنه حبس أموالا له ودفعها إلى مولى له فمات.. فجعلني مكانه"، ثم خرج عن عمرة أنها تصدقت بصدقة وأشهدت عليها وكان ابنها يليها"، ثم بوب (334) "باب الشهادة على الصدقة والاختلاف فيها"، وذكر كلام الفقهاء فيما يتعلق بذلك، مع العلم أنه توفي سنة (261)، كما أنه ذكر (ص25) باب الناظر وكيل للواقف في حياته، ووصي له بعد موته". 

ثم انتقل النظر في شأن الأوقاف إلى القضاة ودواوينهم: كما قال إبراهيم بن موسى الطرابلسي في الإسعاف في أحكام الأوقاف (93): "إذا تقادم أصل الوقف ومات شهوده فما كان في أيدي القضاة وله رسوم في دواوينهم وتنازع أهله فيه يجري على الرسوم الموجودة فيها استحساناً وما ليس له رسوم في دواوينهم وتنازع أهله فيه حملوا في القياس على التثبت فمن برهن على شيء حكم له به وإذا حملوا على التثبت يصير حشرياً وتبقى غلته في يد القاضي ولو أن قاضياً تولى بلداً فوجد في ديوان من كان قبله ذكر أوقاف وهي في أيدي أمناء ولها رسوم في ديوانه فإنه يعمل بها استحساناً... "، وسيأتي دليل بداية ذلك في هذا الزمن في آخر فصل عند ذكر النموذج الوقفي المصري. ثم كانت أموال الأوقاف تودع في بيت مال المسلمين: إلى حين قسمتها على أصحابها، كما خرج أبو عمر محمد بن يوسف الكندي في كتاب القضاة (ص281) من طريق موسى بن أبي أيوب قال: "كانت أموال اليتامى والأوقاف والغيب ترد إلى بيت المال منذ زمن المنصور إلى أيام الرشيد.... كما امتازت بمحاسبة القضاة الذين وُلوا شأن الأوقاف: كما خرج الكندي في كتاب القضاة (295) من طريق عبيد الله عن أبيه قال: "لما ولي البكري القضاء، تتبع أصحاب العمري كلهم وسجنهم، وسجن العمري وقيده، وطالبه بما صار إليه من الأموال والأوقاف وغيرها، وأسقط كل من شهد لأهل الحرس، فلم يرجع أحد منهم عند أحد من القضاة، وأقام يحيى بن عبد الله بن بكير، فنادى عليه وشهره بخيانته".

المصدر: من كتاب الوقف في الإسلام، تاريخ وحضارة