لقد عدّ الإسلامُ حفظَ المالِ أَحدَ المقاصد الضرورية في الشريعة الإسلامية، مُعتبرا كلّ أنواع العمل والكسب والإنفاق من أجَلِّ المقاصد والأفعال التي يؤجر عليها صاحبها إن هو أخلص فيها وأتْقنها، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرْت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك"، وقد تقدم كونُ الوقف من أعظم صور الإنفاق بلا منازعة، وبهذا يكونُ من أبرز الوسائلِ المساعِدة في المحافَظَة على كثيرٍ من المقاصد الشرعية بأقسامها الثلاثة:
القسم الأول: المقاصد الضرورية:"وهي الأمور الخمسة التي لا بد منها لأجل القيام بمصالح الدنيا والآخرة، بحيث يترتب على تركها إما هلاك كبير، أو شر مستطير"، وهي حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال، بحيث لو لم يوجد الدين لاضطربت كل القيم والمقومات الأخلاقية، ولو أُتلفت النفس لانعدمت الحياة وقيمها، ولو اختل العرض لفسدت كل القيم الأسرية والاجتماعية، ولو اختل العقل لارتفع بذلك إدراك الفعل الخُلقي، ولو اختل جانب المال لزالت به القيم الاقتصادية وغيرها من التكافلات المالية، ولحَلّت الشرور والانحرافات بين الأفراد والمجتمعات.
1. فأما حفظ الدين:فلا يخفى ما في الوقف من تحقيقٍ لمرضاة الله تعالى، مع المساعدة على حفظ الجانب الديني، وذلك عن طريق الإسهام في جميع الأوقاف التي تخدم الجانب الدينيّ، كوقف السلاح والمصاحف والكتب، والمساجد والدور والزوايا والأربطة ودور العلم والمدارس والمكتبات، وأوقاف الحرمين والهيئات الدعوية والمرافق التابعة لكل ذلك، واستثمارُ الأوقاف المخصصة لها، وجعل غلتها في مصلحتها كما بينا وسيتبين. ومن ذلك استعمال مال الوقف في تحفيظ القرآن الكريم وفي خدمة الحجاج وطلبة العلم وفي الجهاد أو الدعوة إلى الله تعالى، حتى يُتمكّن من نشر الخير والدين الإسلامي بصورته الصافية، السليمة والنقية، مما يحبب الغير في الدخول فيه، خاصة إنْ هُمْ رأوا من المسلمين حُسْنَ المعاملة والبذْل وقوة التكافل فيما بينهم. وكمثال عملي على فائدة الوقف وآثاره الحسنة على الجانب الديني: نذكر ما ورد في مجلة الزهور المصرية (4/397):"ويُدير ديوانُ الأوقاف 1435 مسجداً في القطر المصري, منها 530 مسجداً في مدينة القاهرة وحدها، ويبلغ عدد خَدَمةِ هذه المساجد 8047 بين مشايخ ومدرّسين وأئمة وخطباء ومؤذّنين وميقاتيين وقرَّاء وملاحظين. أمَّا المعاهد العلمية الدينية التي يُنفق عليها الديوان فهي الجمع الأزهر ومشيخة علماء الإسكندرية ومشيخة الجامع الأحمدي ومشيخة الجامع لدسوقي ومشيخة علماء دمياط، فيها 640 عالماً ونحو 20. 500 طالب.... ويتبع ديوان الأوقاف 151 مكتباً محالة إدارتها إلى نظارة المعارف العمومية مقابل مبلغ 24. 677 جنيهاً يدفعهُ الديوان للنظارة. ويصرف أيضاً مبلغ 1500 جنيه بصفة إعانات لمدارس يُراقب إِدارتها، هذا عدا الإعانات المخصَّصة لبعض المدارس الأهلية".
ورد في المجلة المصرية أيضا (4/397):"أمَّا الوظيفة الدينية والأدبية التي يُؤدَّيها ديوان الأوقاف فِإِنَّهُ يُقيم الشعائر الدينية في المساجد، ويُنفِّذُ شروطَ الواقفين في وجوهِ البرّ التي عيَّنوها، ويبذلُ المساعدةَ على نشر التعليم بالمدارس والكتاتيب والمعاهد العلمية...". وأما حفظ النفس والعقل والعرض:فلأن المرء مسؤول عن حفظ عقله ونفسه مع أنْفس غيره وأعراضهم، والوقف أحد الأسباب المعينة على ذلك:
2. ففي الجانب النفسي والفردي:تعتبر الزكاة والصدقات، من أبرز الوسائل المُطهرات، من مختلف المعاصي والانحرافات، كما قال تعالى:﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة 103]، وصح من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث.."، والوقف من جنس الزكاة التي فيها النجاة من الهلكات، مع تطهير أنفس الأغنياء من المعاصي والشح، ولأنفس الفقراء من الحسد والاعتداء، وهي طهرة للمجتمع حتى لا يقع في الرذائل - كما سيأتي في الجانب الاجتماعي - وهي طهرة وترويح لأنفس المحتاجين، ومواساة المكروبين، وإعانة المسلمين.
3. وأما الجانب العقلي:فالوقف أحد أبرز الوسائل المعينة على حفظ العقل، لما فيه من بناءٍ للمساجد والمدارس والزوايا والمكتبات والمعاهد العلميةِ المعينة على خدمة الجانب العقلي والبحث العلمي، والمساهمة في رفع الأمية عن المسلمين.
4. وفي مقصد حفظ العرض والنسل:يُعد الوقف من أبرز الوسائل المعينة على ذلك، عن طريق الأوقاف المختصة بتجهيز المتزوجات وتزويج المسلمين، وتزويدهم بما يحتاجونه من أثاث ومتاع وماعون ونحوها. كما له فضل كبير في القضاء على كل ما يضر بجانب العرض، ويكفي أن تتأمل - يا رعاك الله - فيما خرجه البخاري (1421) ومسلم (1022) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية، قال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني، قال: اللهم، لك الحمد على غني، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق، فقال: اللهم، لك الحمد على زانية، وعلى غني، وعلى سارق، فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق يستعف بها عن سرقته".
5. وأما دور الوقف في حفظ الجانب المالي:فهو كبير جدا، وخاصة في الوقف الاستثماري الذي مرت فوائده في السابق والحمد لله، بل قد كان من هدي السلف أن يوقفوا أوقافا استغلالية ثم يوقفون لها أوقافا استثمارية تعود غلتها عليها كما سيأتي.
القسم الثاني: المقاصد الحاجية: هي الرخص التي شُرعت لعذر -أو على خلاف الأصل- في الأحوال الاستثنائية، رفعًا للحرج والمشقة عن الناس مما لا يصل إلى درجة الضرورة"، بحيث يترتب على تركها تغليبٌ لجانب الحرج والضيق على جانب السعة، وهي عبارة عن رخصٍ ومصالح مُعِينَة على العبادة مخففةٍ لها، ومكمِّلة للمقاصد الضرورية، بِحَيْث تأخذ بها إلى جانب التوسط بين الإفراط والتفريط، سواء في مجال العبادات أو العقوبات أو المعاملات كالشركات والمزارعات الوقفية التي بينا.
القسم الثالث: المقاصد التحسينية:وهذه المقاصد لها علاقة كبيرة بموضوع القيم والتكافل، لأن معناها: "الأخذ بما يليق من محاسن النوافل والقيم والأخلاق والعادات، وتجنب الأحوال المدنسات"، مما يُضفي على الدين الإسلامي وأهله مظهرا حسنا، إن هم تحلوا بها، في شتى مجالاتها: بدءا من مجال العبادات فالآداب فالمعاملات إلى مجال الجنايات والعقوبات. ونحن إذا ما تأملنا في الوقف فإنا نجده يندرج ضمن هذا المقصد التحسيني، من مجال المعاملات والعبادات معا، فهو عبادة جليلة لكونه من أحبّ الصدقات عند الله تعالى، وهو من المعاملات لما فيه من استثمارٍ للأموال بشتى أنواع الاستثمار الاقتصادية التي ذكرنا وبالله التوفيق.
المصدر: الطاهر زياني - موقع الألوكة https://www.alukah.net/sharia/0/73362/%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%82%D9%81-%D9%88%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%B5%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%B9%D8%A9/